لم يكن من الصعب علي عندما انتهيت من الرواية أن أحدد أي القصتين أصدق، لكن
مع مرور الوقت ومع توارد الأسئلة على رأسي فقد غدوت محتارا حقا ولم أعد
قادرا على حسم أمري، فكلا القصتين لهما حجج قوية تدعمهما، ولعل هذا ما يبرر
انقسام قراء الرواية ما بين مصدق للقصة الأولى ومكذب للثانية، وبين مكذب
للأولى ومصدق للثانية، بالنسبة لي أحسد كلا الفريقين على حسم أمرهما بينما
مازلت أنا حائرا وضائعا بين الأسئلة.
كان يبدو لي من خلال نهاية الرواية أن القصة الثانية التي رواها باي كانت فقط لإرضاء المحققين اليابانيين اللذين – وأقتبس من باي- : "لا يمكن لعقلهما المحدود أن يستوعب القصة الأولى" ، فبعد إلحاحهما أراد باي أن يحكي لهما قصة مسطحة "تؤكد لهما ما يعرفانه سلفا دون النظر أبعد أو أعلى أو بطريقة مختلفة" (أقتبس ثانية من كلام باي لهما). كذلك ما يعزز فرضية القصة الأولى هي تلك التفاصيل الكثيرة التي رواها باي وحكى فيها ما عاشه لحظة بلحظة(العواصف، الحيوانات المفترسة، الجزيرة الحمضية، صيد الأسماك، قراءة كتيب الارشادات...) دون أي تناقض في الأحداث على العكس بدا كل شيء متناسقا (هل ترى جعلته تلك المدة الطويلة في البحر يروي الحكاية لنفسه مرارا وتكرارا إلى أن ملأ جميع الثغرات !! من يعلم؟؟) كذلك يجب ألا ننسى امتنانه لريتشارد باركر (النمر) الذي -حسب باي- يرجع له الفضل في نجاته حيث أن مراقبته الطويلة والمتأملة بعثت له الأمل الدائم في النجاة وأعطته معنى لبقائه على قيد الحياة. ولولا ذلك الامل لكان باي قد استسلم منذ مدة طويلة، كما أن انشغاله في البداية ب"باركر" وخوفه منه شغله عن التفكير في عائلته والمصير الذي لقيته. وشغله كذلك حتى عن إدراك ورطته وسط المحيط دون مؤوونة كافية تقيه من رهبة الجوع والعطش.
لكن ألا نصنع دائما عالما موازيا في خيالنا نعيد فيه صياغة أحداث العالم الحقيقي التي نرفضها، ألا نتمنى دائما لو أن الأمور كانت مختلفة عما تبدو عليه؟ لماذا لا تكون القصة الثانية هي الحقيقية، وأن كل ما فعله باي هو محاولة نسيان الواقع الأليم الذي عاشه وإظهاره بصورة فانتازية جميلة. فبعد أن رأى إلى أي مندرك يمكن أن ينزل الانسان، ولأنه لم يرد أن يفقد أمله في الانسانية وكذلك إيمانه بالله، فقد أعاد صياغة الأحداث لتظهر كما رواها في القصة الأولى، ولعله إن لم يفعل ذلك فقد ثقته في الناس وفي العالم فلم يعد هناك معنى لأي شيء، بل لم يكن هناك معنى لنجاته أصلا وتشبثه من أجل البقاء، فماذا تكون الحياة إن كنا قد فقدنا ثقتنا في كل شيء؟
كذلك ما يعزز فرضية القصة الثانية هو جملة باي: "وكذلك الله"، عندما سأل اليابانيان عن أفضل قصة وأجاباه: القصة الأولى، فقال: "وكذلك الله". اليابانيان لم يفهما قصده والكاتب "يان مارتل" أيضا لم يفصح عن قصد باي، لكن لا شك أن باي أرادهما أن يدركا لو أننا روينا قصة العالم بطريقتين مختلفتين، فكانت قصتنا الأولى عن عالم خلقه الله تسوده الروحانيات ويحمي فيه الرب البشر الذين يعبدونه، وكانت قصتنا الثانية عن عالم مادي جامد لا روحانية فيه، فلا شك أن قصتنا الأولى هي الأجمل. وقد نستنتج من هذا الكلام أن القصة الثانية هي الواقع ولكن القصة الأولى ببساطة هي الأجمل.
وهنا –في ظني- يفشل الكاتب في تحقيق المغزى من روايته ، حيث أراد أن يكتب قصة "تجعلك تؤمن بالله". لكنني كإنسان أؤمن بوجود الله تعالى لا أظن أن الايمان بالله يمكن أن يتحقق فقط باعتباره هو القصة الأفضل بين قصتين.
وختاما، فإن رواية باي ليست مجرد رواية عادية، فقلما نعثر على روايات تجعلنا نطرح أسئلة عدة ونحن نتصفحها فكيف برواية تجعلك لا تتوقف عن طرح الأسئلة حتى بعد الانتهاء منها بمدة طويلة. ولا تستطيع أن تمنع نفسك من التفكير فيها.
محمد كركازي
19 – 01 – 2013
كان يبدو لي من خلال نهاية الرواية أن القصة الثانية التي رواها باي كانت فقط لإرضاء المحققين اليابانيين اللذين – وأقتبس من باي- : "لا يمكن لعقلهما المحدود أن يستوعب القصة الأولى" ، فبعد إلحاحهما أراد باي أن يحكي لهما قصة مسطحة "تؤكد لهما ما يعرفانه سلفا دون النظر أبعد أو أعلى أو بطريقة مختلفة" (أقتبس ثانية من كلام باي لهما). كذلك ما يعزز فرضية القصة الأولى هي تلك التفاصيل الكثيرة التي رواها باي وحكى فيها ما عاشه لحظة بلحظة(العواصف، الحيوانات المفترسة، الجزيرة الحمضية، صيد الأسماك، قراءة كتيب الارشادات...) دون أي تناقض في الأحداث على العكس بدا كل شيء متناسقا (هل ترى جعلته تلك المدة الطويلة في البحر يروي الحكاية لنفسه مرارا وتكرارا إلى أن ملأ جميع الثغرات !! من يعلم؟؟) كذلك يجب ألا ننسى امتنانه لريتشارد باركر (النمر) الذي -حسب باي- يرجع له الفضل في نجاته حيث أن مراقبته الطويلة والمتأملة بعثت له الأمل الدائم في النجاة وأعطته معنى لبقائه على قيد الحياة. ولولا ذلك الامل لكان باي قد استسلم منذ مدة طويلة، كما أن انشغاله في البداية ب"باركر" وخوفه منه شغله عن التفكير في عائلته والمصير الذي لقيته. وشغله كذلك حتى عن إدراك ورطته وسط المحيط دون مؤوونة كافية تقيه من رهبة الجوع والعطش.
لكن ألا نصنع دائما عالما موازيا في خيالنا نعيد فيه صياغة أحداث العالم الحقيقي التي نرفضها، ألا نتمنى دائما لو أن الأمور كانت مختلفة عما تبدو عليه؟ لماذا لا تكون القصة الثانية هي الحقيقية، وأن كل ما فعله باي هو محاولة نسيان الواقع الأليم الذي عاشه وإظهاره بصورة فانتازية جميلة. فبعد أن رأى إلى أي مندرك يمكن أن ينزل الانسان، ولأنه لم يرد أن يفقد أمله في الانسانية وكذلك إيمانه بالله، فقد أعاد صياغة الأحداث لتظهر كما رواها في القصة الأولى، ولعله إن لم يفعل ذلك فقد ثقته في الناس وفي العالم فلم يعد هناك معنى لأي شيء، بل لم يكن هناك معنى لنجاته أصلا وتشبثه من أجل البقاء، فماذا تكون الحياة إن كنا قد فقدنا ثقتنا في كل شيء؟
كذلك ما يعزز فرضية القصة الثانية هو جملة باي: "وكذلك الله"، عندما سأل اليابانيان عن أفضل قصة وأجاباه: القصة الأولى، فقال: "وكذلك الله". اليابانيان لم يفهما قصده والكاتب "يان مارتل" أيضا لم يفصح عن قصد باي، لكن لا شك أن باي أرادهما أن يدركا لو أننا روينا قصة العالم بطريقتين مختلفتين، فكانت قصتنا الأولى عن عالم خلقه الله تسوده الروحانيات ويحمي فيه الرب البشر الذين يعبدونه، وكانت قصتنا الثانية عن عالم مادي جامد لا روحانية فيه، فلا شك أن قصتنا الأولى هي الأجمل. وقد نستنتج من هذا الكلام أن القصة الثانية هي الواقع ولكن القصة الأولى ببساطة هي الأجمل.
وهنا –في ظني- يفشل الكاتب في تحقيق المغزى من روايته ، حيث أراد أن يكتب قصة "تجعلك تؤمن بالله". لكنني كإنسان أؤمن بوجود الله تعالى لا أظن أن الايمان بالله يمكن أن يتحقق فقط باعتباره هو القصة الأفضل بين قصتين.
وختاما، فإن رواية باي ليست مجرد رواية عادية، فقلما نعثر على روايات تجعلنا نطرح أسئلة عدة ونحن نتصفحها فكيف برواية تجعلك لا تتوقف عن طرح الأسئلة حتى بعد الانتهاء منها بمدة طويلة. ولا تستطيع أن تمنع نفسك من التفكير فيها.
محمد كركازي
19 – 01 – 2013